............
نُشر في إحدى الجرائد مقال بعنوان «ستين بالمائة من البخاري غير صحيح »
وهذا العنوان كما هو واضح، مقصود به الإثارة والاستفزاز، ولذا فإن الرد الإجمالي عليه أنه كذب صريح، يخالفه واقع صحيح البخاري وأقوال شراحه من العلماء والباحثين على امتداد العالم الإسلامي عبر القرون حتى اليوم، وتفصيل ذلك كالتالي:
ذكر صاحب المقال: أن صحيح البخاري يُنْظَر إليه على أنه أصح كتب الحديث النبوي عند أهل السنة والجماعة.
ثم عقب على ذلك بعدة طعون فيه بقوله: إن البخاري أخرج أحاديث كثيرة عن بعض الرواة الذين وُصفوا بالضعف تارة، وبالكذب تارة أخرى، وبالتدليس والسرقة، أو الرواية بالأجرة تارة ثالثة.
ثم ذكر مثالًا معينًا وهو: رواية البخاري في الصحيح عن «إسماعيل بن أبى أُويس» وهو أحد شيوخ البخاري المباشرين، وتلقى عنه البخاري سماعًا وكتابًا.
ومثالًا آخر وهو: الرواة المعروفون بالتدليس، وذكر بعض الطعون الأخرى كما ستأتي مع الرد عليها.
وأول ما نبدأ به الإشارة إلى أن صاحب المقال قد اعتمد في طعونه على المصادر والمصطلحات الحديثية، وبذلك يكون لنا الحق في الرد عليه بالاحتكام إلى المصادر والقواعد الحديثية.
كما أن صاحب المقال ذكر في آخره أنه أستاذ في الشريعة، وعضو في نقابة المحامين، وبالتالي نقول منذ البداية: إن الحكم على الأحاديث بالصحة أو عدمها يعد قضية علمية اجتهادية في نطاق القواعد والمصطلحات الخاصة بعلوم الحديث، وبذلك تتشابه في عدة جوانب مع الأحكام التي يصدرها القضاة المختصون، وأحوال توثيق الرواة وتجريحهم متفرعة عن أحكام باب الشهادات في الفقه الإسلامي، حيث تعد الرواية عن الشخص بمثابة الشهادة له أو عليه، وبالتالي كان مقتضى تخصص صاحب المقال وخبرته أن لا يتبنى هذه الطعون أو يجعل قلمه أداة لنشرها.
وقد ذكر صاحب المقال أن الحافظ ابن حجر في مقدمة شرحه للبخاري المسمى «فتح الباري» قد عالج فيها هذه الطعون كلها، والمختصون بعلوم الحديث يرون ما أجاب به الحافظ بن حجر عن تلك الطعون؛ يعد معالجة علمية مقنعة لمن يكون منصفًا، غير أن صاحب المقال لم يقتنع بها، لكنى من باب الاختصار أقول: لو أنه راجعها بعناية وتجرُّد لوجد فيها مع المواضع التفصيلية المكملة لها خلال الشرح، الرد الكافي لتلك الطعون، جملة وتفصيلًا مؤيدًا من الأدلة بما لا يناقض عقلًا ولا منطقًا.
وذلك لأن الحافظ بن حجر قد رجع إلى معظم الشراح قبله، وتناول شرح الصحيح حديثًا حديثًا، وبذلك جاءت أجوبته عن تلك الطعون في المقدمة وخلال الشرح بما يقبله كل عاقل منصف، وقد وافقه في مجمل ما ذكر، عامة الشراح والباحثين من بعده حتى الآن، إلا من يشذ إما لغرضٍ سَيِّءٍ أو قصورٍ في الفهم والاطلاع، والشاذ عمومًا لا يُعتد به في ميزان الاعتدال والإنصاف.
وخلاصة ما يتسع له مقام الرد هنا: أن الذي ذكره صاحب المقال من الطعون بالضعف وغيره من المغالطات، فمن ذلك ما لم تثبت نسبته للرواة أصلًا، أو لم تترجح نسبتها لأي منهم، مثل دعوى الكذب وسرقة الحديث، ومن تلك الطعون ما لا يعد قادحًا في روايات البخاري للراوي المنسوب إليه تلك الطعون، مثل التدليس كما سيأتي تفصيله.
ومن الطعون ما لا يعد قادحًا في الرواة عمومًا في صحيح البخاري أو غيره، عند جمهور النقاد، وهو أخذ الأجرة على التحديث، ومنها ما يكون ضعف الراوي مقيدًا ببعض الأحوال فقط، ويثبت من واقع الصحيح أن البخاري لم يحتج بهذا الراوي فيما هو مضعف فيه، فمثلًا من الرواة الذين روى عنهم البخاري في صحيحه «بَدَل بن المحبَّر التميمي البصري» وثقه عدد من النقاد، ولكن ضعفه الدارقطني في روايته عن زائدة بن قدامة، وبالرجوع إلى صحيح البخاري لا نجده يخرج له شيئًا من روايته عن زائدة هذا، بل يخرج له عن شعبة بن الحجاج، وهو من أعلام الثقات [ينظر هدي الساري: 392].
وبذلك لا يوجد مطعن على رواية البخاري له، رغم قول الدارقطني فيه. فكان من مقتضى اطلاع صاحب المقال على ردود الحافظ بن حجر وأجوبته من واقع الصحيح أن يقتنع بعدم انتقاد البخاري في أنواع التضعيف التي ذكرها، لكننا نفاجأ به يقول: إنه رغم معالجة ابن حجر هذه، فإن تلك الانتقادات والجواب عنها تضع علامة استفهام على جميع ما قيل من تمجيد وتضخيم لهذا الكتاب الذي ادعى كاتبه مع كامل الاحترام له، بأنه لم يضع فيه إلا الصحيح الذي يراه حجة فيما بينه وبين الله سبحانه.
فهذا مسلك عجيب، يفيد أن صاحب المقال لا ينشد الوصول إلى الصواب، ولكن يريد ذكر ما يعده طعونًا، ويدلل عليه بالأباطيل والشبه المردودة كما تقدم عن رواية بَدَل بن المحبر، وكما سيأتي توضيحه في غيره.
وأكثر ما أبداه صاحب المقال من انتقادات ورتب عليه الطعون هو قوله: إن البخاري أخرج أحاديث لمن وُصفوا بالتدليس أو اشتُهروا به، ثم يقول: والتدليس مرادف للكذب.
وهذا قلب للحقائق لمخالفته ما قرره جمهور العلماء والعقلاء، أن الكذب خلاف التدليس، فالكذب أن يقول الراوي : إن فلانًا حدثني بكذا وهو لم يحدثه ولم يسمع منه الحديث المذكور، أما التدليس فهو أن يقول الراوي : «عن فلان، أو قال فلان كذا» ولا يذكر أي عبارة تدل على تلقيه المباشر للحديث ممن يرويه عنه، فأين الترادف؟
ثم يقول صاحب المقال: «إن البخاري روى لأشخاص عرفوا بالتدليس، عدهم البعض بـ (57) راويًا، أخرج لهم البخاري ما يقارب (3260) ما بين رواية وتعليق، وهى نسبة هائلة تعنى أن أكثر من ستين بالمائة من أحاديثه ورواياته، قد تم نقلها من أناس اشتهروا بالتدليس، وهذه النتيجة الخاطئة هي التي جعلها صاحب المقال عنوانًا له، وهى تقتضى أن مجموع أحاديث صحيح البخاري وتعاليقه خمسة آلاف تقريبًا، حتى يكون ما ذكره يعادل(60%) من مجموع أحاديث البخاري، وهذا العدد مخالف لعدد أحاديث البخاري المسندة فقط دون التعاليق وهو حسب الطبعات الصحيحة المتداولة (7563) حديثًا.
ومن جهة أخرى فإن هذا العدد الذي حدده للمدلسين من رجال صحيح البخاري، وهو (57) راويًا فهذه إحصائية خاطئة أيضًا، لمخالفتها واقع صحيح البخاري الذي بين أيدينا، والصواب أنهم (72) راويًا، وتقدير صاحب المقال لمرويات هؤلاء بـ (3260) رواية وتعليقًا، لا يستقيم كونه (60 %) على أي تقدير لمجموع روايات البخاري؛ حيث إن الروايات المسندة فقط حسب الطبعات المتداولة (7563) كما سبق، وعدد روايات المدلسين المذكور لا يمثل ستين في المائة من هذا العدد كما هو واضح.
ولو أننا قارنا العدد المذكور بعدد روايات البخاري وتعاليقه، نجد النسبة أقل كثيرًا؛ حيث إن عدد روايات البخاري كله وتعاليقه تقارب عشرة آلاف، وبذلك تصبح روايات وتعاليق المدلسين المذكورة في المقال تعادل (30%) فقط وليس (60%) وبذلك يبطل عنوان المقال ويثبت كذبه بشهادة الواقع.
ثم إن صاحب المقال ذكر المدلسين في مقاله بوصفين؛ أحدهما: «مَنْ وُصفوا بالتدليس»، والثاني : «من اشتُهروا بالتدليس» وقد عرَّفنا صاحب المقال بأنه «أستاذ للشريعة وعضو لنقابة المحامين» ومقتضى هذا أن خبرته بالألفاظ ودلالاتها تقضى بأن يُفرق بين من وُصف بالشيء مجرد وصف، وبين من اشتُهر به، فالأول يكفي فيه وقوع التدليس ولو نادرًا، والثاني لا بد أن يكثر منه التدليس بالمقارنة بعدد مروياته؛ حتى يشتهر بالتدليس، وبالتالي لا يكون حكمهم واحدًا، كما فعل في شبهته الإحصائية.
وبناءً على هذا التفاوت بين الأوصاف جرى اصطلاح أئمة الحديث على أن المدلسين باعتبار توثيقهم وجرحهم، ووقوع التدليس منهم، ينقسمون إلى خمس مراتب، منها ما يؤثر تدليسه بالتضعيف، ومنها ما لا يؤثر، كما سيأتي، وبالتالي يكون تعميم صاحب المقال بأن كل روايات المدلسين ضعيفة، تعميم مردود.
وأيضًا قواعد التدليس العامة تقتضى بأن من كان تدليسه مؤثرًا، وصرَّح في روايته بالسماع أو غيره مما يفيد الاتصال، فتكون روايته هذه سالمة من ضعف التدليس، في حين نجد صاحب المقال تجاهل كل ذلك، واعتبر مجرد وصف الراوي بالتدليس مقتضيًا ضعف رواياته كلها، وذلك حتى يخرج بعنوانه الكاذب للمقال.
ومراتب التدليس الخمس السابق الإشارة إليها، منها أهل المرتبة الأولى، وهم من كان تدليسهم نادرًا مع اتصافهم بالثقة، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري. والثانية: من كان تدليسهم قليلًا بجانب عدد مروياتهم مع ثقتهم، كسفيان الثوري، أو كان المدلس قد عُرف باستقراء رواياته أنه لا يدلس إلا عن ثقة كسفيان بن عيينة، وحكم هاتين الطبقتين أن تدليسهم لا يضعف مروياتهم [طبقات المدلسين: 13].
وبالبحث في الصحيح نجد البخاري قد روى عن أربعين راويًا من أهل هاتين المرتبتين، ورواياته عنهم تزيد أضعافًا عن القدر الذي رواه عن أهل بقية المراتب: الثالثة والرابعة والخامسة، وسيأتي حكمهم، وعدد مروياتهم.
لكن نستبعد أولًا مرويات أهل المرتبتين الأولى والثانية من إحصائية الروايات المذكورة في المقال، وهى (3260)؛ لأن التدليس من أهل هاتين المرتبتين لا يقتضى الضعف كما تقدم، فلا يبقى بعدهما ممن أخرج لهم البخاري إلا أهل المراتب الثالثة والرابعة والخامسة، وحكم هذه المراتب الثلاثة أنه إذا صرَّح الراوي منهم بما يدل على الاتصال المباشر كالسماع ونحوه، فيزول أثر تدليسه، وإذا لم يصرح بالاتصال يكون تدليسه مضعفًا لروايته بمفرده.
وقد بلغ مجموع روايات أهل هذه المراتب الثلاثة في البخاري (1407) روايات، وبالبحث لمروياتهم نجد (585) رواية قد صرح الرواة فيها داخل صحيح البخاري أو خارجه بما يدل على الاتصال، وبذلك يزول أثر تدليسهم، ويبقى عدد (822) رواية فقط رويت بالعنعنة، ولم يوجد داخل البخاري ولا خارجهُ تصريح فيها بالاتصال، وهذه الروايات جميعها نجد أن البخاري لا يصحح كلا منها بمفرده، ولكن يوجد مع كل منها رواية أخرى للحديث ترقيها إلى الصحة؛ سواء بمتابعة للراوي المدلس أو بشاهد يشهد له، وحسب قواعد المحدثين المعتبرة في ذلك، ومادام صاحب المقال من أساتذة الشريعة فلا يخفي عليه تأثير الشهود في تقوية الدليل وضعفه، فهكذا شأن الروايات الحديثية في صحيح البخاري أو غيره.
وتكون النتيجة العامة مما تقدم أن من روى لهم البخاري في صحيحه ممن نسبوا إلى التدليس فهم أكثر عددًا ممن ذكرهم صاحب المقال، ومجموع رواياتهم أيضًا أكثر عددًا مما ذكره، لكن البخاري قد التزم فيهم جميعًا بقواعد أئمة الحديث النقدية، بحيث لا يوجد في صحة رواياتهم مطعن مؤيد بدليل معتبر عند جمهور النقاد، وعند من ينشد الحق المجرد من أهل العقل والمنطق عبر أجيال وقرون حتى الآن.
أما الراوي الذي ذكره صاحب المقال مثالًا لمن وصف من رجال صحيح البخاري بوضع الحديث أو سرقته، فقال: «ومن الأمثلة على ذلك: «إسماعيل بن أبى أويس» الذي أخرج له البخاري أكثر من (16) حديثًا في كتابه الصحيح، ثم قال صاحب المقال: وفي كتاب إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال (2/184-185) عن سلمة بن شبيب قال: سمعت إسماعيل بن أبى أويس يقول: ربما أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم».والمقصود بأهل المدينة أصحاب الإمام مالك.
وهذه الرواية قد ذُكرت فعلًا في إكمال تهذيب الكمال عن الدارقطني بسند محتج به، والذي سمعها من إسماعيل هو «سلمة بن شبيب» أحد تلاميذ إسماعيل وهو ثقة، لكن جاءت رواية أخرى عن سلمة بن شبيب نفسه ترد هذه الرواية؛ حيث قال: حضرت ابن أبى أويس تُعرض عليه مسائل مالك، فقُرئ عليه: شَكَّ ابنُ وهب، أو كلام نحوه، فذكرتُ ذلك لأحمد بن حنبل فقال: لا يُحتاج إلى هذا، ابن أبى أويس ثقة، وقد قام في أمر المحنة مقامًا محمودًا منه. [المعرفة والتاريخ للنسوي: 2/177-178]
فهذا ردُّ لقول سلمة بن شبيب من أحد شيوخه الكبار وهو الإمام أحمد وتوثيق صريح منه لإسماعيل بن أبى أويس، عدالة وضبطًا مع معاينته وخبرته بكل من سلمة وإسماعيل، وليس من أمانة البحث والنقد أن يذكر صاحب المقال الجرح ويتجاهل التوثيق؛ وخاصة من طريق راوي الجرح نفسه، وقد سئل الإمام أحمد أيضًا: مَنْ بالمدينة اليوم؟ فقال: إسماعيل بن أبى أويس، عالم كثير العلم، أو نحو هذا، وجاء عن يحيى بن معين في إسماعيل أقوال مختلفة منها نسبته إلى الكذب وإلى سرقة الحديث، ومنها تضعيفه من جهة ضبطه للحديث، ومنها وصفه بأنه لا بأس به، وبذلك اعتبر العلماء أن أقواله السابقة بالجرح مردودة بقوله هذا؛ لكونه يقتضى توثيقه عنده، إضافة إلى توثيق الإمام أحمد السابق.
كما أن الوصف بالكذب أو بسرقة الحديث يعد جرحًا مجملًا بدون دليل؛ حيث لم يُذكر له حديث معين قد وضعه، ولا نجد في مصادر كتب الموضوعات المتداولة حديثًا منسوبًا إليه وضعه أو سرقه، وبالإجمال فكل ما نُسب إلى إسماعيل هذا من تجريح يوجد ما يرده، كما تقدم من كلام الإمام أحمد وغيره، وأقصى ما يمكن نسبته إليه وقوع بعض الأخطاء منه فيما حدث به من حفظه، وهذا يحدث من كثير من الثقات ولا يقدح في توثيقهم العام، وقد كانت روايات إسماعيل مكتوبة عنده، وقد خص تلميذه البخاري بإطلاعه على أصوله المكتوبة وأذن له أن يكتب منها ما يريد ويُعلِّم على ما يرتضيه منها، وبذلك يترجح أن يكون ما رواه عنه في صحيحه فهو سالم من خطأ شيخه إسماعيل، كما أن الإمام مسلمًا كذلك من تلاميذ إسماعيل، وروى عنه في صحيحه [ينظر البيان والتوضيح لأبى زرعة بن العراقى: ترجمة رقم 49، وهدي الساري لابن حجر: 391] وروى عن إسماعيل أيضًا يعقوب بن سفيان الفسوي، وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده.
وبذلك كله يثبت أن ما نسب إلى إسماعيل بن أبى أويس من كذب أو وضع أو سرقة للحديث فهي اتهامات بغير دليل يؤيدها.
وقول صاحب المقال: إن البخاري أخرج لإسماعيل أكثر من (16) حديثًا، فهذا خطأ ظاهر، لمخالفته واقع صحيح البخاري؛ حيث بلغت جملة ما أخرجه البخاري له (228) حديثًا ما بين مكرر مرة أو مرات وغير مكرر، وأغلبها مما لم ينفرد به إسماعيل، بل له فيها ما يوافقه عليه غيره من الثقات بمتابعة أو شاهد، وبذلك تسْلم روايات البخاري له من الطعن في صحتها، حسبما يقرره واقع الروايات في الصحيح، وما تقرره قواعد أئمة نقد الحديث التي حاول صاحب المقال التطبيق الخاطئ لها.
وذِكْر صاحب المقال لهذا المثال العملي من الصحيح مع ردنا العملي عليه، يُعد من الدلائل الواضحة على استخفاف صاحبه بمقام الطعن على الإمام البخاري وصحيحه؛ حيث يذكر ما يكذبه الواقع وترده القواعد النقدية.
كما يدل على أنه يقيس الإمام البخاري على أمثاله؛ حيث يلغى ضميره العلمي، بالتصدي لما لا خبرة له به، ويتهم البريء بشهادة وفحص قرون من العقلاء والعلماء المختصين وشراح الصحيح، وينسب إلى البخاري وصحيحه ما يكذبه الواقع، دون خوف من مسئوليته عن ذلك أمام رب العالمين، ويقرر دون دليل معتبر وضع علامة استفهام على تمجيد القرون المتعاقبة للإمام البخاري وصحيحه، ويرميه زورًا بأنه ادعى جعل صحيحه حجة بينه وبين ربه، ألا فإن الموعد الله يا أخي بينك وبين إمام أفضى إلى ربه، وخالف طعنُك فيه الواقعَ، وانحرف عن كافة أهل العلم والمنطق.
• وأما ما ذكره صاحب المقال من رواية عمرو بن ميمون بشأن قردة زنت فرجمتها جماعة القرود وهو معهم، وجعل ذلك مثالًا لمئات الأحاديث التي رواها البخاري، ولا يقبلها حسب زعمه عقل ولا منطق.
فالرد على صاحب المقال في ذلك: أن العقل والمنطق اللذين يحتكم إليهما، هما عقله ومنطقه هو فقط أو مع من يكون وراءه وجعله أداة مُسخرة له؛ حيث إنه مسبوق إلى هذه الفرية كما سيأتي.
أما المنطق والعقل العلميان المستفادان من الدراسات المستفيضة والاستقراء الواعي، مع الحرص التام على مبدأ الإنصاف، فلا يوجد عند ذلك ما يؤيد هذه الفرية.
وأقرب دليل على ذلك رواية عمرو بن ميمون هذه، فهي طعن مأخوذ عن قدامى المستشرقين ، مما يدل عمليًا على أنه ما يزال بيننا من يجعل نفسه أداة في يد عدوه لينوب عنه في الطعن في أعز الأركان لهوية الثقافة العربية الإسلامية.
كما أن هذا يؤكد التبعية الخاطئة في مسمى العقل والمنطق.
وكما أن هذا الطعن استشراقيًّا قديمًا فإنه قد قام الكثيرون بالرد الكافي عليه، وربما يكون صاحب المقال على علم بهذه الردود؛ لكنه يتجاهلها كما تجاهل غيرها مما سبق ذكره من الردود.
ومن باب التذكرة فقط بالرد العلمي والمنطقي على هذا الطعن، أقول: إن هذه الرواية ليست حديثًا منسوبًا إلى الرسول ﷺ ولا لأحد من صحابته الكرام؛ ولكنها أثر موقوف على أحد التابعين الثقات، شاهده بنفسه وقاله بمناسبة معينة، وبمقصد أخلاقي نبيل، وهو عمرو بن ميمون الأودي من كبار فقهاء التابعين، وأحد المخضرمين؛ حيث أدرك الجاهلية والإسلام، فأسلم على يد الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضى الله عنه لما بعثه الرسول ﷺ إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام، ولكنه لم يلق الرسول ﷺ، فلذلك لم تثبت صحبته، وكان موضع رضا مَن عرفه من الصحابة، وقد لازم في العلم معاذ بن جبل رضى الله عنه باليمن ثم بالشام؛ حتى حضر وفاته وباشر دفنه بنفسه، ثم قال: صحبت بعده أفقه الناس عبد الله مسعود، وواقعة القردة هذه رواها الإمام البخاري مختصرة بأصل القصة تحت باب القسامة في الجاهلية [حديث رقم: 3849، مع فتح الباري: 7/156 و160، 161] وقد ذكرها عمرو بن ميمون على أنها أعجب ما رأى في حياته الجاهلية قبل أن يُسلم ويعرف حد الرجم في الإسلام، وبالتالي فإن تسميته لما رأى بأنه زنا، وبحد الرجم عليه، فهو من باب التشبيه منه لتقريب الواقعة للسامعين والسائلين من تلاميذه على ضوء ما عرفوه في شريعة الإسلام.
وشأن العجائب بل الأعجب، كما في تلك الرواية أن تكون خارجة عن حدود المألوف عقلًا ومنطقًا، ولكن هذا لا يقطع بعدم وقوعها.
وقد روى الأثرَ غيرُ البخاري من معاصريه فمن بعدهم من طرق يُحتج بمجموعها، وبعضها مختصر كما عند البخاري، وبعضها مطول [ينظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: 372، واعتلال القلوب للخرائطى: 1/ح182، والمستخرج على صحيح البخاري للإسماعيلى كما في الإصابة: 8/238، وتهذيب الكمال: 22/265-266، ومعرفة الصحابة لأبى نعيم الأصبهانى 4/حديث 5141] وفي تلك الروايات جاءت تفاصيل تبين سبب ذكر عمرو الأودي لتلك الواقعة وكيفية وقوعها، بحيث يظهر من تلك التفاصيل عدم استحالتها عقلًا ومنطقًا عند من له دراية بعلم الحيوان وذكاء وخصائص وطباع القرود بالذات، ولا أظن صاحب المقال يجهل من يزعم من الفلاسفة الماديين أن القرد هو أصل الإنسان.
ولتوضيح الواقعة أذكر من رواياتها التفصيلية في المصادر المحال عليها فيما قدمت ما يلى: أن عمرو بن ميمون هذا كان جالسًا في مسجد الكوفة، وعنده ناس، فقال له رجلٌ: حدثنا بأعجب شىء رأيته في الجاهلية، قال: رأيت الرجم في غير بني آدم، إن أهلي أرسلوني في نخل لهم أحفظها من القرود، فبينا أنا يومًا في البستان؛ إذ جاء القرود، فصعدتُ نخلة، فتفرقت القرود، فرأيت قردًًا وقردة اضطجعا، ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقا ثم ناما، فجاء قرد فغمزها من تحت رأسها، فاستلَّت يدها من تحت رأس القرد، ثم انطلقتْ معه غير بعيد فنكحها وأنا أنظره، ثم رجعت إلى مضطجعها، فذهبت تدخل يدها تحت عنق القرد كما كانت، فانتبه القرد فقام فشم دبرها، فصاح صيحة، فاجتمعت القرود، فجعل يشير إليها وإليه، فقام واحد منهم كهيئة الخطيب، فوجهوا في طلب القرد، فجاءوا به بعينه وأنا أعرفه، فانطلقوا بها وبالقرد إلى موضع كثير الرمل، فحفروا لهما حفيرة فجعلوهما فيها، ثم رجموهما حتى قتلوهما، والله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدًا ﷺ هـ.
فإن كان ما يدعيه صاحب المقال من مئات الحديث مشابهًا لهذا الأثر، فهي مردودة عليه جميعًا، ولو صرَّح بها لكان لكل منها ردُّه بالدلائل العلمية؛ حيث لا نجد في وقائع هذا الأثر التفصيلية ما يناقض العقل المثقف بالعلم المتعلق به ولا المنطق السليم، وخالق الكون سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:
ﱹ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﱸ (الأنعام : 38).
وهذه الواقعة منذ حكاها هذا التابعي الفقيه لمن اجتمعوا حوله من طلبة العلم وطلبوها منه لم يواجهه أحد منهم برفض ولا تكذيب؛ بل حفظوها عنه بتفاصيلها وتداولوا روايتها عنه بإسناد صحيح، وطرق متفرعة حتى وصلت إلى الإمام البخاري وبعض معاصريه، ثم من بعدهم كما تقدمت الإحالات، مع القبول المصاحب للتعجب، والانتباه إلى ما صرح به قائلها من بيان التقاء ما شاهده بنفسه مع ما جاءت به شريعة الإسلام مما تقتضيه الطبائع المستقيمة ولو في عالم الحيوان.
وقد جاء في التتبع الزمنى لهذه الرواية ما يفيد النظر فيها من قبل رواية البخاري لها في صحيحه؛ حيث أخرجها الخرائطي في اعتلال القلوب [1/181] من طريق علىّ بن عاصم الواسطي عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن ميمون، بمثل رواية البخاري، ثم عقب علىّ بن عاصم على روايته بقوله: لو غير حصين حدثني ما صدَّقت هـ. لكن لما كان حصين من الثقات المعروفين قبل روايته للأثر وصدَّقها. أما معاصر البخاري عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ فقد روى الحديث في كتابه تأويل مختلف الحديث (372) من طريق هشيم بن بشير عن حصين عم عمرو ابن ميمون، بمثل رواية البخاري، ثم علق ابن قتيبة عليه بما يؤيد معناه ويرد الطعن عنه مستندًا إلى ما جاء عن قدماء العرب من خصال القرود وطباع الحيوانات عمومًا، بحيث لا يعد الأثر مناقضًا لعقل ولا نقل.
أما الإمام ابن عبد البر المتوفى سنة 463 هـ وتابعه ابن الأثير المتوفى سنة630 هـ فقد انتقد الرواية التفصيلية السابق ذكرها، وذلك من جهة بعض رجال إسنادها، ومن جهة متنها، وكلا الأمرين مردود عليهما، فقد ذكر أن القصة بطولها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما [الاستيعاب مع الإصابة 2/542 وأسد الغابة 4/275-276] وهذا النقد مردود، فعبد الله بن مسلم قال فيه أبو حاتم الرازي: لا بأس به [الجرح والتعديل 5/368] وعيسى بن حطان، ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له في صحيحه عدة روايات، فيكون صدوقًا بتصحيح ابن حبان لحديثه. وأيضًا ذكر الرواية المزى في تهذيب الكمال (22/265-266) من طريق «شبابة بن سوار عن عبد الملك عن عيسى» وشرط المزي المعروف: أنه يعلق الرواية عن الراوي ويعتبر من حذفه من الإسناد قبله مقبولًا عنده. وكذلك ذكره الذهبى في السير معلقًا عن شبابة عن عبد الملك، به ولم يتعقبه بأى نقد [السير: 4/159] وعزا الحافظ بن حجر في الفتح (7/160) الرواية إلى مستخرج الإسماعيلى على صحيح البخاري من وجه آخر عن عيسى بن حطان، دون نقد لهذا الإسناد. وأما المتن فذكر ابن عبد البر وابن الأثير تبعًا له أن جماعة من أهل العلم أنكروا ما فيه من إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإضافة إقامة الحدود إلى البهائم، ثم قالا: ولو صح (الأثر) فيحمل على أن يكون ما شاهده هذا التابعي من القرود هم من الجن لكونهم ممن يشملهم التكليف هـ.
ومع نسبتهما هذا القول لجماعة من أهل العلم، فإنهما لم يعينا أحدًا يرجع لقوله، ولم نجده من جانبنا عند أحد غيرهما.
وقد رد الحافظ بن حجر هذا القول بأن تلك الواقعة أُطلق اسم الزنا والرجم فيها على ما شابههما في الصورة فقط، ويؤيد ذلك ما تقدم في الرواية أنها كانت في الجاهلية قبل الإسلام، وأن عمرو بن ميمون أطلق فيها ذلك تقريبًا لفهم من سألوه، ممن يعرفون شريعة الإسلام، ثم أيد الحافظ إمكان حصول تلك الوقائع بما عرف في علم الحيوان من طباع القرود ذكائها وتصرفاتها، بحيث لا نجد فيما أجاب به مناقضة لعقل منصف ولا منطق سليم، كما رد الحافظ كذلك على زعم أن الحديث مقحم على صحيح البخاري. بل كأني بهذا التابعي يخاطبنا اليوم بأنه إذا كان قد شهد الواقع في أيام الجاهلية بتكاتف جماعة القرود من الحيوان على ضبط علاقاتهم الجنسية، ومعاقبة من ينتهكها، فكيف بنا في تحضرنا المزعوم تعانى انفلات الجنس والتحرش ومصاحبتهما لمعالجاتنا الثقافية بما يؤججهما، ويقدم الداء باسم الدواء.
وهناك جانب آخر من جوانب العقل والمنطق الواقعي، أود الإحالة عليه وهو أن عشوائيات القاهرة فيها منطقة تسمى «عزبة القرود» يسكنها جماعة يقتنون القرود ويدربونها على ما يريدون من حركات وتصرفات مشابهة للإنسان، ثم يتكسبون بعرضها على الناس في مناطق القاهرة، فيمكن سؤال هؤلاء عما يعرفونه عن هذه القرود وطباعهم؛ حيث سيخبرون بعجائب واقعية تشهد لما تضمنه هذا الأثر وزيادة.
ويمكن كذلك الاطلاع على حلقات التلفزيون التي كان يسجلها الدكتور مصطفي محمود رحمه الله عن مملكتي النحل والنمل وغيرهما من عالم الحيوان.
وأضيف أيضًا أن المنطقة التي حصلت فيها واقعة هذا الأثر، وهى أحد مناطق بلاد اليمن، يوجد منطقة مشابهة لها كما شاهدتها بنفسي وذلك منذ شهور قليلة؛ حيث سافرت من مكة المكرمة بالطريق البرى إلى الطائف، فوجدت مناطق جبلية على جانبي الطريق وفي أودية الجبال وبعض المراعى المتفرقة شاهدت جماعات من القرود تنتشر في هذه المناطق بعضها نائم في الجحور، وبعضها يناوش بعضًا حسبما أتيح لي مشاهدته العاجلة وأنا في السيارة، ولا يفصل هذه الجماعات من القرود عن الطريق إلا الأسلاك الحديدية الموضوعة على جانب الطريق لتمنع هذه القرود وغيرها من حيوانات الرعي المنتشرة في الأودية التي بها النباتات الخضراء، فلو أن مجموعة بحثية من الدارسين لعلم الحيوان ذهبت إلى هذه المناطق وقامت بدراسات وتصوير لحركات هذه المجموعات من القرود خلال فترة زمنية كافية، وقارنتها بما في موسوعات علم الحيوان، فأعتقد أنها ستخرج بنتائج أعجب من تلك الأعجوبة الهادفة التي سجلها هذا التابعي بتفاصيلها كما شاهدها، وأشار لمن حدثهم بها، ولكل من يطلع عليها إلى العبرة التي تستفاد منها في ضبط هذا الجانب الحساس من حياة الإنسان، بعد أن وصلت خلاصتها إلينا بسند صحيح عند البخاري وغيره، ووصلت إلينا تفاصيلها عند غير البخاري بروايات ثابتة على الراجح كما أوضحت، مع تأييد كل من الدراسات والأبحاث العلمية والمشاهدات الواقعية لها، بما فيه الكفاية لمن يبحث عن الحقيقة المجردة.
أما أن نجد بعض المغرضين أو الأعداء من المستشرقين يذكرون مثل هذا الأثر أو غيره للطعن على الإمام البخاري وصحيحه، فنتجاهل هذه الحقائق العلمية والواقع المشاهد، ونجعل عقولنا ومنطقنا أداة لممارسة فرض المفاهيم الخاطئة ضد خصوصيات ثقافتنا الإسلامية الخالدة، فهذا هو فعلًا الذي لا يقبله عاقل على نفسه.
وقبل أن يُخضِع صاحب المقال فكره وعقله لقبول انتقادات ثبت بطلانها، ويطالب الأزهر بتنقيتها، فلعله يحاول تنقية فكره هو وقلمه من الهوى والتبعية التي أوقعته في ترديد افتراءات باطلة على الإمام البخاري وصحيحه بما يخالف الواقع والدليل، كما أوضحته فيما سبق، وفيه الكفاية لكل من ينشد الحق ويرتضى الإنصاف، وبالله التوفيق.