من
خلال تجربتي مع الموقوفين في القضايا الفكرية كنت أسأل بحرص واهتمام عن
مسوغات التكفير لدى التكفيريين منهم؛ فوجدت أن تلك المسوغات لا تعدو أن
تكون شُبهاً يسهل تفنيدها لدى المختصين، خصوصاً إذا كان الموقوف المتلبس
بتلك الشُّبه لديه الاستعداد الحقيقي لسماع الحق والإذعان له متى ما أُقيمت
عليه الحجة وبان له الصواب المدعوم بقول الله تعالى ومنهج رسول الله
وعقيدة أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة
الأعلام ممن سطَّروا عقيدة أهل السنة والجماعة، إلا أنني وجدت ثقافة شائعة
بينهم قد يدرك بعضهم مدلولاتها، وقد يردد أغلبهم ألفاظها دون أدنى إدراك
لتفاصيل مضامينها واستدلالاتها، هذه الثقافة الشائعة هي ما يسميه الفقهاء
(التكفير باللازم)، وهي مسألة فقهية من مسائل العقيدة الدقيقة المتخصصة،
وقد تناولها العلماء بالبحث والبيان، وسأنقل نصوصاً موثقة في هذا الشأن؛
حتى يستبين الأمر للمختصين، وتقوم الحجة على مَنْ يبحث عن الحق، لكن قبل
سرد أقوال العلماء في هذا الشأن لا بد من إيضاح صورة المسألة بشكل مبسط حتى
يستطيع غير المتخصصين تصور ما نتحدث عنه: فمعلوم أن من نواقض الإسلام (إن
من لا يكفِّر الكافر فهو كافر مثله)، وهذا ناقض صحيح، لكن المعنيّ بالكافر
هنا الكافر الأصلي من أصحاب الديانات الأخرى غير الإسلام، لكن المحرضين من
منظري الفئة الضالة وظَّفوا هذا الناقض في تكفير من لا يكفِّر الحكام العرب
والمسلمين؛ ليجدوا أنفسهم في ورطة شرعية واقعية مفادها ما ذكره ناصر
الفهد، أحد منظري الفئة الضالة، في مراجعاته التي بثت عبر التلفزيون
السعودي، بأن هذه القاعدة انسحبت كسلسلة على كافة أفراد المجتمع؛ فكل من لا
يكفِّر من يعتقدون أنه كافر من حكام أو وزراء أو عسكريين فإنه يكون كافراً
عندهم باللازم؛ لأنه لم يكفر الكافر؛ فلزم من هذا تكفير المجتمعات المسلمة
جميعاً. وقولهم باطل من أصله؛ لأنه بُني على باطل، وما بُني على باطل فهو
باطل، وأعني بالباطل الذي بنوا عليه حكمهم هنا تكفيرهم للحكام العرب
والمسلمين ومَن في حكمهم من وزراء عسكريين وغيرهم بمسوغات باطلة وشبهات
مضللة لا ينطبق عليها وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنها (كفر بواح عندكم
فيه من الله برهان)، علماً بأن الذي يستطيع أن يحكم على الأمور بأنها كفر
بواح هم العلماء الراسخون في العلم لا أنصاف طلبة العلم أو شيوخ الإنترنت
من مجهولي الأسماء والمنهج والقصد، ثم هل يمكن أن يتصور أن علماء العالم
الإسلامي قاطبة وعلماء المملكة العربية السعودية خاصة جهلوا تلك المسوغات
ولم يفهموها واقتصر فهمها على هذه الثلة من الشباب الذين تدفعهم العاطفة
وينقصهم العلم والعمق في فَهم الشريعة الإسلامية بمقاصدها العظيمة التي
تدور حول حفظ الضروريات الخمس بشمولية تتناسب مع الأحوال والأحداث؟
والآن
إليك أخي القارئ الكريم بسط المسألة بسطاً علمياً موثقاً: فقد اختلف
العلماء في التكفير بالمآل ولوازم الأقوال؛ فذهب قوم إلى أن (لازم المذهب
مذهب) فكفروا بالمآل، وقيَّدوا بكون اللزوم بينا غير خفي.
فقال
العطار في حاشيته على جمع الجوامع (1-371): (لازم المذهب لا يعد مذهباً إلا
أن يكون لازماً بيناً)، وهو موافق لما ذكره الدسوقي في حاشيته (4-301).
واختار
قوم أنه ليس بمذهب إذا تبين عدم التزام المتكلم بلازمه، قال الشاطبي في
الاعتصام (3-172 - تحقيق مشهور): (الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذاهب
المحققين من أهل الأصول (إن الكفر بالمآل، وليس بكفر في الحال)، كيف
والمكفر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به، تبين له وجه لزوم
الكفر من مقالته، لم يقل بها على حال.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الصارم المسلول ص 517 (التكفير لا يكون بأمر محتمل).
وقال
ابن حزم في الفصل (2-369): (وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم
فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به)، وقال الحافظ في فتح
الباري (12 - 337): (لازم المذهب ليس بمذهب؛ فقد يذكر العالم الشيء ولا
يستحضر لازمه حتى إذا عرفه أنكره).
وقال القاري في مرقاة المفاتيح
(1- 283): (قال ابن حجر الهيتمي: الصواب عند الأكثرين من علماء السلف
والخلف أنا لا نكفر أهل البدع والأهواء إلا إن أتوا بمكفر صريح لا
استلزامي؛ لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بلازم).
وقال ابن أمير
الحاج في التقرير والتحبير (3 - 425): (لازم المذهب ليس بمذهب لصاحبه، فمن
يلزمه الكفر ولم يقل به فليس بكافر)، وعليه مشى الإمام الرازي والشيخ عز
الدين بن عبدالسلام.
وهو مذهب العز بن عبدالسلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (ص 172) والزركشي في المنثور والبحر المحيط.
وشدَّد
الشوكاني في ذلك فقال في السيل الجرار (4-580): (قد علم كل من كان من
الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الاقدام، فمن أراد المخاطرة
بدينه فعلى نفسه جنى).
واعلم أن التكفير بالمآل واللازم طريقة أهل
البدع والأهواء؛ قال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2-343):
(أكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل، واختلف قول مالك في التكفير بالمآل،
ومعنى التكفير بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم
عنها الكفر، وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم بخلاف أهل السنة)، فقد سئل شيخ
الإسلام كما في الفتاوى (20-217):
هل لازم المذهب مذهب أم لا؟
فأجاب:
(أما قول السائل هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب فالصواب أن مذهب
الإنسان ليس بمذهب له، إذا لم يلتزمه فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت
إضافته إليه كذباً عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال، غير
التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر، فالذين
قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها، لكن لم يعلم أنها تلزمه.
ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من
الصفات إنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من
أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدراً مشتركاً لزم ألا
يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيماناً، فإنه ما من شيء
يثبته القلب، إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم
قول غلاة الملاحدة المعطلين، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى، لكن نعلم
أن كثيراً ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله).
وأحسن شيء في هذا
الباب ما حرَّره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في القواعد النورانية (ص 128)
فقال: (لازم قول الإنسان نوعان، أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب
عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق. ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه
لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثيراً ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة
من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب
التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل
عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له، فقد يضاف
إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه؛ لكونه قد
قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزم هذا التفصيل في اختلاف
الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب، هو أجود من إطلاق أحدهما،
فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله، وما لا يرضاه فليس
قوله، وإن كان متناقضاً، وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم
اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه، فإذا عرف هذا، عرف الفرق بين الواجب
من المقالات والواقع منها، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم
لزومها.
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال،
وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله،
لكونه ملتزماً لرسالته، فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول، وإن كان
لازماً له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه، ولا يلزم
من كونه نصا على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه؛ لأنه قد يكون عن اجتهادَيْن في
وقتين).
Tidak ada komentar:
Posting Komentar